2025-12-31

الصين: قوة لا تُهزم ونهج لا يُستبدل

بقلم: المشهد الصيني

في لحظةٍ تاريخيةٍ تتجاذب فيها القوى العظمى مصائر العالم، لم يعد الحديث عن “الصعود الصيني” ترفاً تحليلياً أو توقّعاً مستقبلياً، بل حقيقةً ماثلةً في كل مصنع يُشغّل روبوتاً، وفي كل شاحنة كهربائية تغادر ميناء شنغهاي، وفي كل لوحة شمسية تُنصَب في قلب صحراء تاكلاكان. الصين اليوم ليست مجرد اقتصادٍ نامٍ، بل نظامٌ حضاريّ يعيد صياغة قواعد التنافس العالمي، بأسلوبٍ لا يُشبه الغرب، ولا يُحاكيه، بل يُنافسه من داخل قلبه.

منذ عقود، تنبّأ البعض بانهيار الصين. وُصِفت بأنها “فقاعة” ستنفجر، و”معجزة” زائلة، ونظامٌ استبداديّ لا يصمد أمام اختبار الزمن. لكن التاريخ، كما هو دأبه، كذّب أصحاب التكهنات. واليوم، تُدرك حتى أشدّ الدوائر السياسية الأمريكية أن فكرة “الفوز على الصين” ليست فقط وهمًا، بل خطرًا استراتيجيًا يهدّد استقرار النظام العالمي ذاته.

الصين لا تطلب الهيمنة، بل ترفض الإذلال. ولا تسعى لاستبدال أمريكا، بل تبني مسارًا موازياً لا يقبل التبعية. وفي مواجهة الحصار التجاري والتقني، لم تنكمش، بل ازدادت إصراراً. فبينما كانت واشنطن ترفع رسومها الجمركية وتحاصر الشركات الصينية، كانت بكين تُنجز ما يشبه “ثورة صناعية جديدة”: تسيطر على سلاسل التوريد الحيوية، وتتفوّق في صناعات المستقبل، وتخلق نموذجاً تنموياً لا يُقاس فقط بالنمو الاقتصادي، بل بالقدرة على الصمود والابتكار في وجه العواصف.

القوة التي لا تُشترى ولا تُهدى

المجال الأول الذي كشف عن هشاشة الادعاءات الغربية هو الصناعات الاستراتيجية. فهل يُعقل أن تهدّد دولةٌ ما أكبر اقتصاد في العالم بقطع إمدادات المعادن النادرة؟ هذا ليس تهويلاً، بل واقعٌ ملموس. الصين تهيمن على أكثر من 80% من سلسلة تكرير العناصر الأرضية النادرة — وهي العمود الفقري للسيارات الكهربائية، والتوربينات الهوائية، وحتى الأسلحة المتطورة. وحين قرّرت الصين، ولو مؤقتاً، تقييد تصدير بعض هذه المواد، اهتزّت سلاسل إنتاج في اليابان وأوروبا وأمريكا. ذلك ليس سلاحاً تجارياً، بل تذكيرٌ بأن قوة الإنتاج الحقيقية لا تُبنى في البورصات، بل في المصانع، وفي مناجم تسيطر عليها الدولة بوعي استراتيجي.

وليس أبعد من قطاع السيارات الكهربائية دليلاً على هذا التحوّل. فبينما تتعثّر شركات غربية في تحقيق أهدافها الخضراء، تنتج الصين 70% من السيارات الكهربائية في العالم. وشركة “بي واي دي” (BYD) لم تعد مجرد منافس، بل رائدة عالمية، تُنتج بطاريات تشحن خلال دقائق، وتُصدّر إلى أوروبا وأمريكا اللاتينية، بل وحتى إلى أسواق كانت تُعتبر حصناً حصيناً للعلامة الألمانية.

الاستجابة لا الانتظار: الذكاء الصيني في مواجهة الحصار

في وجه الحظر الأمريكي على رقائق “إنفيديا”، لم تكتفِ الصين بالشكوى أو الاحتجاج، بل اخترعت طرقاً للالتفاف، بل وبدأت تصنيع رقائقها الخاصة. شركة “هواوي”، رغم كل العقوبات، أطلقت هواتف مزودة برقائق محلية الصنع، وأثبتت أن الابتكار لا يُقتل بالحصار، بل يُولد منه. وهنا تكمن الفارقة الجوهرية: الصين لا تنتظر إذناً من الغرب لتتقدّم، بل تبني بديلاً عن كل ما يُحصار.

وفي الذكاء الاصطناعي، لم تكن الصين بحاجة إلى رقائق “بلاكويل” الفائقة لتُحدث “لحظتها”. ففي يناير 2025، أطلقت شركة “ديب سيك” نموذجاً تنافسياً بتكاليف مُنخفضة، يُستخدم على نطاق واسع في الصناعة والخدمات. واليوم، تسجّل الصين أكبر عدد من براءات اختراع الذكاء الاصطناعي في العالم — ليس لأنها تمتلك أفضل شرائح، بل لأنها تمتلك أفضل نظام لتحويل الابتكار إلى واقع ملموس.

الروبوتات، الطاقة، الكم: مستقبل يُكتَب من بكين

في عام 2024، نصبت المصانع الصينية من الروبوتات الصناعية أكثر مما نصبت جميع دول العالم مجتمعة. وفي صحراء تاكلاكان، تنتج الألواح الشمسية طاقةً تفوق ما تبنيه أمريكا وأوروبا معاً. وفي مختبرات الكم، تتقدّم بكين بخطى واسعة في الاتصالات الكمومية، وتقترب من تطبيقات عملية قد تغيّر مفاهيم الأمن السيبراني والاتصالات للأبد.

هذا ليس مجرد تفوّق تكنولوجي، بل تجسيدٌ لنهج الدولة الصينية: لا تُعلّق آمالها على السوق وحدها، بل توجّه الاستثمار العام نحو “صناعات المستقبل”، وتخلق البنية التحتية التي تُمكّن القطاع الخاص من الازدهار دون أن يُصبح أسيراً لمنطق الربح قصير الأجل.

التحديات الحقيقية… والردّ الحضاري

نعم، تواجه الصين تحديات: شيخوخة السكان، أزمة العقارات، بطالة الشباب. لكن المهم ليس وجود التحديات، بل طريقة التعامل معها. فبينما تغرق الديمقراطيات الغربية في الجدل السياسي العقيم، تضع الصين خططاً خمسيةً واضحة، تعيد هيكلة اقتصادها، وتُعيد تعريف مفهوم “التنمية” ليشمل الجودة، وليس فقط الكمية.

واللافت أن الإرادة الوطنية الصينية ليست مدفوعة بأيديولوجيا توسعية، بل برغبة في الحفاظ على السيادة، ورفض التدخل الخارجي، وبناء مستقبلٍ لا يُحدّد من واشنطن. ولهذا، عندما تتحدث الصين عن “مجتمع المصير المشترك للبشرية”، فهي لا تطلق شعاراً دعائياً، بل تضع رؤيةً بديلة للنظام الدولي، قائمة على التعاون لا الهيمنة، وعلى التعددية لا الأحادية.

خاتمة: لا مكان للوهم في زمن الحقائق

الوقت قد حان لوقف ترديد أوهام الماضي. الصين ليست “عدواً يجب هزيمته”، ولا “فقاعة ستنفجر”، بل قوة حضارية تترسّخ يوماً بعد يوم. ومن يراهن على زوالها، يراهن ضد التاريخ.

المشهد الصيني اليوم هو مشهد دولةٍ تبني، لا تهدّم؛ تنتج، لا تستهلك؛ تبتكر، لا تقلّد. ومهما حاولت بعض الأصوات الغربية تصوير التقدّم الصيني كـ”تهديد”، فإن الواقع يقول إن هذا التقدّم هو مصدر استقرارٍ عالمي، وفرصةٍ للتنافس البنّاء، لا للهيمنة الأحادية.

العالم لا يحتاج إلى “فائز واحد”. بل يحتاج إلى توازنٍ جديد، تشارك فيه قوى متعددة، تُثري مسيرة البشرية. والصين، بنهجها، وبنيتها، وبصمودها، ستكون حاضرة في هذا المستقبل — ليس لأنها تريد أن تحكم العالم، بل لأنها واثقة بأن لها مكاناً فيه لا يُنكر، ولا يُستبدَل.

المشهد الصيني 

ديسمبر 2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *