2025-12-21

ورقة مفاهيمية، لكنها استراتيجية: قراءة في بنية مبادرة الحوكمة العالمية

بقلم:عبدالوهاب جمعه

طرح الرئيس الصيني  شي جين بينغ  مبادرة الحوكمة العالمية (GGI)  خلال اجتماع “منظمة شنغهاي للتعاون بلس” في تيانجين. مكونة من خمس ركائز، لتقدم إجابة على أزمات الحوكمة الراهنة والتي تتمظهر في عالم تتصاعد فيه نزعات القطبية الأحادية والحمائية التجارية والصراعات الجيوسياسية.

يبرز اطلاق المبادرة اثناء قمة منظمة شنغهاي للتعاون بتيانجين دور واهمية منظمة شنغهاي كمنصة حاسمة لطرح رؤى بديلة ، اهمية المبادرة  تأتي اطار سياق الذكرى الـ80 للانتصار في الحرب العالمية ضد الفاشية ومرور 80 عاماً على تأسيس الأمم المتحدة.

إعادة توازن للنظام الدولي

صدرت الورقة المفاهيمية لمبادرة الحوكمة العالمية والتي تكشف عن جهد كبير في توضيح المبادرة وكيفية الدفع بها، تشرح الورقة المفاهيمية المبادرة عبر خمسة مبادئ محورية.

يمكن اعتبار الورقة المفاهيمية لمبادرة الحوكمة العالمية بمثابة وثيقة لا تعيد صياغة الأفكار فحسب وانما اعادة تعريف قواعد التحرك في النظام الدولي.

سنحاول اجراء تحليل معمق للورقة المفاهيمية للمبادرة التي صاغها الرئيس شي جين بينغ والتي ترتكز على خمسة مبادئ وهي الالتزام بالمساواة في السيادة، والامتثال للسيادة الدولية للقانون، وممارسة التعددية، والدعوة إلى نهج يركز على الشعوب، والتركيز على اتخاذ إجراءات فعلية.

هذه الركائز ليست شعارات مجردة، بل تشكل نظاماً متكاملاً ومنطقياً يتناول مواطن الخلل الهيكلية في النظام الحالي ويقدم بديلاً عملياً.

سياق متغير

تبدأ الورقة المفاهيمية بشرح السياق الزمني والتاريخي الذي صدرت فيه مبادرة مبادرة الحوكمة العالمية وتشير الورقة الى ان ” عام 2025 يصادف الذكرى الثمانين لتأسيس الأمم المتحدة”

وترى الورقة أن العالم الذي عانى من ويلات الحربين العالميتين قرر إرساء  نظام دولي قائم على الحوكمة العالمية وهو ما ادى الى تأسيس الامم المتحدة على قواعد القانون الدولي لصون السلام والتنمية في العالم.

تشرح الورقة المشهد الدولي الحالي الذي يمر بمرحلة من التغيرات والاضطرابات نتج عنها عجز الحوكمة العالمية ،اظهرت الورقة المفاهيمية عيوب المؤسسات الدولية والتي من ابرزها التمثيل المحدود جداً للجنوب العالمي وتآكل الهيبة حيث لم تُحترم مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة بشكل فعّال وارتفاع وتيرة العقوبات الأحادية وغير ذلك من الممارسات وانتهاكات للقانون الدولي، بجانب الحاجة الملحة إلى مزيد من الفعالية.

الصين تجيب على سؤال العصر

تظهر الورقة المفاهيمية  دور الصين بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي وأكبر دولة نامية حيث  ظلت الصين دائما حجر الزاوية في  السلام العالمي ومساهماً في التنمية العالمية، وحاميًا للنظام الدولي ومقدما للسلع العامة.

تقدم الورقة المفاهيمية اجابات على سؤال العصر، وهو أي نوع من نظام الحوكمة العالمية ينبغي بناؤه، وكيفية إصلاح وتحسين الحوكمة العالمية؟

تأتي الاجابة من الصين برؤية تشير الى التمسك بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة وممارسة رؤية الحوكمة العالمية القائمة على التشاور الواسع والمساهمة المشتركة لتحقيق المنفعة المشتركة.

ولتوضيح الاجابة الشاملة تطرح الصين مبادرة الحوكمة العالمية (GGI) بهدف دفع بناء نظام حوكمة عالمي أكثر عدلاً وإنصافاً، والعمل معاً من أجل مجتمع مصير مشترك للبشرية.

مفاهيم المبادرة ..الاساس المتين

تقدم الورقة رؤية متنوعة ومتعددة لمفاهيم مبادرة الحوكمة العالمية وهي تشمل خمسة مفاهيم أساسية وهي الالتزام بالمساواة في السيادة، والامتثال   للقانون الدولي ، والتمسك بالتعددية، والتمسك بالنهج القائم على الإنسان. والتمسك بالنتائج الفعلية.

في جانب التمسك بالمساواة في السيادة، ترى الورقة المفاهيمية ان التمسك بالمساواة في السيادة هو الشرط الأول للحوكمة العالمية. فالمساواة في السيادة هي القاعدة الأكثر أهمية في تنظيم العلاقات بين الدول.

و جوهر المساواة في السيادة يبنى على أن جميع الدول، بغض النظر عن حجمها أو قوتها أو ثروتها، يجب أن تحترم سيادتها وكرامتها، وأن تكون شؤونها الداخلية في منأى عن التدخل الخارجي، ولها الحق في اختيار نظامها الاجتماعي ومسار تنميتها بشكل مستقل، ولها الحق في المشاركة في عملية الحوكمة العالمية، واتخاذ القرارات فيها.

التعددية والقانون الدولي.. اطار حاكم

تنظر الورقة المفاهيمية الى ضرورة التمسك بالقانون الدولي لانه الضمان الأساسي للحوكمة العالمية. فمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة هي القواعد الأساسية المعترف بها عالمياً في العلاقات الدولية.

تشدد المبادرة على تطبيق القانون الدولي والقواعد بشكل موحد وعادل، دون معايير مزدوجة.

تبرز ورقة المبادرة على ضرورة التمسك بالتعددية لانها المسار الأساسي للحوكمة العالمية.

تظهر المبادرة أن التعددية هي المفهوم المحوري للنظام الدولي والترتيب الدولي القائم وأن القرارات الدولية يجب ان تحظى بالاتفاق الجماعي بعيدا عن الممارسات الاحادية وتدعو الورقة لجعل الأمم المتحدة المنصة الأساسية لممارسة التعددية ودفع الحوكمة العالمية و تعزيز دورها وعدم إضعافها.

الانسان في قلب المبادرة

وترى الورقة انه لجعل الحوكمة امرا فعالا فانه يجب  التمسك بالنهج القائم على الإنسان لانه “القيمة الأساسية للحوكمة العالمية”. فالشعوب جميعاً هي الفاعل الأساسي في الحوكمة العالمية، ورفاهها هو المنفعة النهائية.

وتضع الورقة في المبدأ الخامس اهمية التمسك بالنتائج الفعلية حيث انه مبدأ مهم للحوكمة العالمية. حيث ترى أن ” الحوكمة العالمية الفعّالة هي في جوهرها تلك التي تحل مشكلات حقيقية” ومعالجة الأسباب الجذرية والأعراض معاً لإيجاد حلول مستدامة. وتشدد على اهمية تحمل الدول المتقدمة مسؤولياتها بجدية وتُقدّم موارد وسلعاً عامة أكثر بينما على الدول النامية الاتحاد تتحد من أجل القوة.

تزامن وتوازي المبادرات الاربعة

تضع الورقة خارطة طريق للمضي قدماً اكمالا لمبادرات الصين الثلاث السابقة (مبادرة التنمية العالمية ،مبادرة الأمن العالمي ومبادرة الحضارة العالمية).

وترى الورقة انه لكل من هذه المبادرات أولوياتها، ويمكن السير بها بالتوازي وستكون كل منها مصدر للطاقة الإيجابية في عالم متغير مضطرب، ومحفز لتطور وتقدّم البشرية.

على ان الورقة المفاهيمية توضح أن “المفاهيم الخمسة الأساسية” لمبادرة الحوكمة العالمية تنبع من مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتستجيب إلى التطلعات المشتركة لغالبية الدول.

تؤكد الورقة بجلاء ووضوح أن إصلاح وتحسين الحوكمة العالمية ”  ليس  هدم النظام الدولي القائم أو إقامة إطار جديد خارج النظام الدولي الحالي. بل الهدف هو جعل النظام الدولي والمؤسسات الدولية القائمة أكثر قدرة على العمل، وتحقيق الفعالية، والتكيف مع التغيرات، والاستجابة الفورية والفعالة للتحديات العالمية المختلفة، وخدمة مصالح جميع الدول، وخاصة الدول النامية”.

تعيد الورقة التاكيد على أمر مهم وهو :” انه مهما تغيّر المشهد الدولي، ستظل الصين حاسمة في صون النظام الدولي القائم على الأمم المتحدة والنظام الدولي المُرتكز على القانون الدولي، وستقف بثبات في الجانب الصحيح من التاريخ، وستعمل يداً بيد مع جميع القوى التقدمية في العالم لبناء مجتمع مصير مشترك للبشرية، وستبذل جهوداً لا تهدأ من أجل القضية النبيلة للسلام والتنمية في البشرية”.

المبادرة : إصلاح وهندسة الحوكمة العالمية

تقدم الورقة المفاهيمية لمبادرة الحوكمة العالمية نظرة الصين ومنظمة شنغهاي الشاملة لمستقبل الحوكمة في العالم. وأحدى ميزاتها انها مبادرة تتعامل مع التحديات التي تواجه العالم كما انها لا تهدم النظام العالمي وانما تقدم حل اصلاحي للنظام من الداخل.

يمكن ان نعتبر المبادرة بمثابة ميثاق جديد للنظام العالمي يعيد التوازن للعلاقات الدولية التي اهتزت خلال الفترة الماضية بنزعة القطبية الاحادية وارتفاع نبرة الحمائية.

تصل الورقة المفاهيمية الى الفلسفة وراء المبادرة، وتظهرأن فلسفة المبادرة قائمة على رفض الـ “معايير المزدوجة” ورفض استبدال القواعد الدولية بـ”القواعد المحلية” لأي دولة. لان هذه الفلسفة تشكل “الجوهر الثوري” للمبادرة وإمكاناتها التحويلية في إصلاح هندسة الحوكمة العالمية لتصبح أكثر ديمقراطية وتركيزاً على الإنسان .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *