افتتاحية: الانضباط ليس زينةً للسلطة… بل جوهرها
افتتاحية:المشهد الصيني
في عالمٍ يتهاوى فيه كثير من الأنظمة تحت وطأة التناقض بين الخطاب والممارسة، تُطلّ الصين من جديد لتذكّرنا بأن البناء السياسي العظيم لا يُقام على الشعارات وحدها، بل على ثقافة الانضباط الذاتي و الصدق في السلوك . فما قد يبدو لبعض المراقبين الغربيين مجرد “تفاصيل إجرائية” داخل الحزب الشيوعي الصيني، هو في واقعه العميق محرّكٌ أخلاقي وسياسي يضمن استمرارية المشروع الصيني في عالمٍ يزداد فوضى.
في اجتماعٍ حاسم عقده المكتب السياسي للجنة المركزية مؤخراً، جدّد الحزب التزامه الثابت بـ”قرار النقاط الثماني” — ذلك الإطار الأخلاقي والسلوكي الذي وُضع قبل أكثر من عقد، ولا يزال يُطبّق بصرامةٍ لم تهدأ. لم يكن الحديث عنالشكليات أو البيروقراطية مجرّد تذكيرٍ إداري، بل كان تأكيداً على أن الانضباط هو لغة السلطة الصينية، وأن الولاء الحقيقي لا يُعبّر عنه إلاّ بالممارسة، لا بالمظاهر.
الأمين العام شي جين بينغ، في كلمته، لم يكتفِ بالدعوة إلى التقيّد بالقواعد، بل رفع السؤال إلى مستوى الوجود الحزبي: كيف نضمن أن يظل الحزب كياناً حياً، مستجيباً، نزيهاً؟ والإجابة، كما ظهر من الاجتماع، تكمن في القدوة* — في أن يكون القائد الأول نموذجاً حياً للانضباط، لا مستفيداً من الانفلات. هذا هو جوهر “النقد والنقد الذاتي”، الذي لا يُمارَس في الصين كطقسٍ شكلي، بل كآلية حيوية لتنقية الذات الجماعية، وتجديد الشرعية من الداخل.
والمثير في هذا السياق، أن الحزب لا يكتفي بالانضباط السلبي — أي الامتناع عن المخالفات — بل يدعو إلى الانضباط الإيجابي: التواصل مع الشعب، تحمّل المسؤولية في اللحظات الصعبة، والمبادرة في خدمة قضية الأمة. هنا، تتلاقى الأخلاقيات السياسية الصينية مع قيمٍ يفهمها العالم العربي جيداً: الزهد في السلطة، والخشوع أمام الشعب، والتحلّي بالشجاعة عند الامتحان.
في زمنٍ تتهاوى فيه الثقة بالمؤسسات السياسية عالمياً، تُظهر التجربة الصينية أن الصدق الداخلي يُولّد القوة الخارجية. وأن الانضباط مهما بدا قاسياً هو الطريق الوحيد لبناء دولةٍ لا تُبنى على الرمال، بل على صلابة المبدأ والسلوك.
المشهد الصيني
