تحليل اقتصادي .. هاينان على عتبة عصر جديد: كيف تُعيد العمليات الجمركية الخاصة تشكيل مستقبل الميناء التجاري الحر؟
هاينان:المشهد الصيني
في صباح الخميس 18 ديسمبر 2025، لن تكون جزيرة هاينان كغيرها من الجزر الاستوائية المُحاطة بالمياه الصافية والشواطئ الذهبية. ففي ذلك اليوم، تُشرِع الجزيرة الواقعة في أقصى جنوب الصين أبوابها على عصرٍ جديد من التنمية، مع بدء تطبيق العمليات الجمركية الخاصة على مستوى الجزيرة بأكملها — خطوةٌ لا تمثّل تغييرًا إداريًّا فحسب، بل انعطافة استراتيجية في مسار الاقتصاد الصيني ونموذجه للانفتاح العالمي.
منذ إعلان تأسيس “ميناء هاينان التجاري الحر” (Hainan FTP) عام 2020، ظلّت الجزيرة تحمل وعْدًا: أن تصبح نافذةً صينيةً على مستقبل التجارة، والابتكار، والانفتاح المؤسسي. واليوم، يتحول هذا الوعد إلى واقع ملموس، حيث يجتمع المسؤولون والخبراء على أن البوابة التي تُفتح ليست للبضائع وحسب، بل للثقة، وللقيم التنظيمية، ولرؤية حضارية ترى في الانفتاح عمقًا لا عُرضًا.
قفزة في الإعفاءات الجمركية: من 21% إلى 74%
الركيزة الأولى لهذا التحوّل تكمن في التوسّع الهائل في سياسة الإعفاء من الرسوم الجمركية. فوفقًا لوانغ فنغلي، نائب مدير مكتب لجنة العمل الخاصة بالميناء التجاري الحر في هاينان، سيرتفع عدد البنود الجمركية المؤهلة للإعفاء من نحو 1,900 بند إلى 6,600 بند، ما يرفع النسبة الشاملة من 21% إلى 74%.
لكن الأهم ليس في الأرقام، بل في المنطق الاقتصادي الجديد الذي تُرسّخه هذه السياسة. فهاينان لم تعد مجرد محطة عبور للبضائع، بل منصة إنتاج متكاملة. فشركة صيدلانية حيوية، على سبيل المثال، تستطيع اليوم استيراد معداتها وموادها الخام بدون جمارك أثناء مرحلة البحث، ثم تصنيع منتجات داخل الجزيرة، وشحنها إلى البر الصيني بدون أي رسوم جمركية — بشرط أن تضيف إليها قيمة محلية لا تقل عن 30%.
ويُكلّل هذا المسار بضريبة دخل شركات مفضّلة قدرها 15% (بدلًا من 25%)، وضريبة دخل شخصي 15% للمهندسين والباحثين. بهذا، لا تُقدِّم هاينان حافزًا ماليًّا وحيدًا، بل دورة تنموية مغلقة تربط بين الابتكار، والإنتاج، والتمويل، والموهبة — دورةٌ تُعيد تعريف معنى “المنطقة الحرة” في القرن الحادي والعشرين.
الاستهلاك المحلي ينطلق: سكان هاينان أمام سلع معفاة من الرسوم
لكن التحوّل لا يقتصر على الشركات. فلأول مرة، يُدرج المواطن العادي في قلب المشروع التنموي. إذ تخطط السلطات لتطبيق “نظام القائمة الإيجابية”، الذي يسمح لسكان هاينان بشراء سلع مستوردة محددة من إلكترونيات إلى مستحضرات التجميل بدون دفع رسوم جمركية.
هذا القرار ليس استهلاكيًّا بحتًا، بل جزء من استراتيجية أوسع لبناء مجتمع اقتصادي مستقر داخل الجزيرة. فعندما يشعر السكان بأنهم مستفيدين مباشرة من سياسات الانفتاح، يتحولون من متفرّجين إلى شركاء في التنمية. ويؤكد وانغ فنغلي أن هذا التوجّه سيجعل “العمل والحياة اليومية في الجزيرة أكثر راحة وتنوعًا”، ممهّدًا لجذب كفاءات وعائلات جديدة، لا تبحث فقط عن فرص عمل، بل عن جودة حياة.
قطاعات ناشئة على الأبواب: من الرياح البحرية إلى الفضاء التجاري
ومع انخفاض تكاليف التشغيل وارتفاع اليقين التنظيمي، تصبح هاينان بيئة خصبة لـ “الاقتصادات الناشئة”. فخبير الاقتصاد هوانغ هان تشوان يلفت إلى أن القطاعات التي ستشهد ازدهارًا وشيكًا تشمل طاقة الرياح البحرية، الصناعة الفضائية التجارية، وحتىالاقتصاد الرقمي العابر للحدود.
والموقع الجغرافي له دور حاسم: فقرب هاينان من خط الاستواء يجعلها موقعًا مثاليًّا لإطلاق الصواريخ، بينما موقعها الاستراتيجي بين جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ يمنحها ميزة لوجستية لا تُضاهى. لكن الأهم هو أن هذه القطاعات لن تنمو في فراغ. فهي ستتغذّى من تجمّع صناعي ذكي يجمع بين البحث الأكاديمي، والتمويل، والبنية التحتية الرقمية، والموارد البشرية الماهرة وهو ما يُحقّق هدفًا استراتيجيًّا أعمق: تنويع الاقتصاد الصيني بعيدًا عن الاعتماد على التصنيع التقليدي.
الانفتاح المؤسسي: من تدفق البضائع إلى تدفق الثقة
وربما كان الأهم في كل هذا هو أن هاينان تجسّد تحوّلًا فلسفيًّا في نهج الصين تجاه العولمة. ففي الماضي، ركّزت سياسات الانفتاح على إزالة الحواجز المادية: تخفيض الرسوم، تسهيل النقل، جذب الاستثمارات. أما اليوم، فتسعى الصين إلى بناء بنيان مؤسسي يتوافق مع أعلى المعايير الدولية في حماية الملكية الفكرية، وشفافية الإجراءات، وتدفق البيانات، والعدالة الضريبية.
يقول هوانغ هان تشوان: «هاينان ليست تجربة محلية، بل مختبر وطني». وكل نجاح مؤسسي تحققه الجزيرة — كنظام إدارة الأصول عبر الحدود، أو آلية آمنة لنقل البيانات — سيمثّل بذرةً يمكن أن تُزرع في شنغهاي، وشنجن، وشيان. وفي عالمٍ يتصاعد فيه الخطاب الانعزالي، تقدّم هاينان بديلًا قائمًا على الاستقرار والقابلية للتنبؤ وهما سلعتان نادرتان في أسواق اليوم.
انفتاح شامل: بضائع، خدمات، أشخاص، بيانات
ولا يغفل المخططون أي بُعد من أبعاد الانفتاح الحديث. فهاينان الجديدة ستفتتح أبوابها أمام:
– خدمات التعليم العالي والرعاية الصحية، لتصبح مركزًا إقليميًّا للتميز البشري.
– الكفاءات والمستثمرين، عبر تخفيف قيود التأشيرات وتسهيل الإقامة.
– التمويل عبر الحدود، من خلال تطوير نشاطات اليوان خارج الحدود وإدارة الثروات الدولية.
– اللوجستيات الذكية، مع تحسين فحص السفن وتبسيط إجراءات الشحن.
– الاقتصاد الرقمي، عبر بناء بنية تحتية آمنة لتدفق البيانات دون المساس بالسيادة السيبرانية.
بهذا، لا تكتفي هاينان بمحاكاة نماذج مثل سنغافورة أو دبي، بل تبتكر نموذجًا صينيًّا خاصًّا .. نموذجًا يوازن بين الكفاءة السوقية، والسيادة الوطنية، والعدالة الاجتماعية.
هاينان ليست ميناءً، بل وعد
هاينان اليوم ليست مجرد جزيرة، ولا مجرد منطقة تجارة حرة. هي مشروع حضاري يدمج بين الابتكار التكنولوجي، والعدالة الضريبية، والاستدامة البيئية، والانفتاح المؤسسي الرشيد.
وبعد 18 ديسمبر، لن يسأل العالم: “هل هاينان ناجحة؟”، بل: “ما الذي يمكننا تعلّمه من هاينان؟”.
لأنها، في جوهرها، ليست فقط بوابة الصين على العالم، بل وعدٌ صيني جديد: أن الانفتاح لا ينتهي، بل يتطوّر. وأن المستقبل لا يُستورد، بل يُبنى بذكاء، وثقة، ورؤية.
