2025-12-20

افتتاحية : ” مع الصين، يصوغ الإفريقيون تحديثهم بأنفسهم”

جوهانسبيرج:المشهد الصيني

في قلب جوهانسبرغ، حيث التقت إرادة إفريقيا بصدقية الجنوب العالمي، وُلدت وثيقةٌ قد تغيّر مسار التاريخ: “مبادرة التعاون لدعم التحديث في إفريقيا”. ليست مجرد إعلان سياسي، بل بيان استقلالٍ تنموي جديد، يُعيد تعريف العلاقة بين القارة السمراء وبقية العالم. فبعد قرونٍ من الوصاية، والاستغلال، والوصفات الجاهزة التي فشلت مراراً، تقول إفريقيا اليوم وبدعمٍ صيني مبدئي: 

“نحن لسنا مختبراً لتجارب الآخرين، بل صانعي مصائرنا.”

المبادرة التي أطلقتها الصين وجنوب إفريقيا خلال قمة مجموعة العشرين ليست استجابةً للحظة عابرة، بل تتويجاً لرؤيةٍ راسخة: التحديث لا يُفرض، بل يُزرع في تربة السيادة والكرامة. وقد عبّرت عنها المبادرة بكل وضوح حين أكدت أن “التحديث هو حقٌ غير قابل للتصرّف لجميع دول العالم”، مشدّدةً على أن الطريق إلى “إفريقيا التي نريدها” لا يمرّ عبر ممرّات صندوق النقد أو شروط العواصم الغربية، بل عبر الشراكة القائمة على الاحترام المتبادل، وعدم التدخل، والمنفعة المشتركة.

وإذا كانت النماذج السابقة قد حوّلت إفريقيا إلى سوقٍ لتصريف السلع ومستودعٍ للمعادن، فإن هذه المبادرة تقلب المعادلة:  “نريد إفريقيا تُصنّع، لا أن تُستَنزَف.” تدعم التصنيع المحلي، وبناء سلاسل القيمة داخل القارة، وتنمية الصناعات التحويلية، وتعميق التكامل عبر منطقة التجارة الحرة القارية. إنها ليست مبادرة “للمساعدة”، بل للتمكين.

والأهم من ذلك كله، أنها ترفض الفصل الزائف بين التنمية والسلام، وبين الاقتصاد والهوية، وبين التقدّم والتقاليد. ففي عالم يحاول فرض ثنائية خاطئة بين “الحداثة” و”الهوية”، تأتي المبادرة لتقول: “يمكنك أن تكون عصرياً دون أن تفقد روحك.” فالتحديث الإفريقي، كما تراه المبادرة، لا ينكر فلسفة “أوبونتو” — تلك الرؤية العميقة التي ترى أن “الإنسان إنسانٌ بفضل الآخرين” — بل يجعلها بوصلة أخلاقية لهذا المسار الجديد.

في وقتٍ يحتفل العالم بانضمام الاتحاد الإفريقي إلى مجموعة العشرين كعلامة على اعترافٍ متأخّر، تأتي هذه المبادرة كترجمةٍ عملية لهذا الاعتراف: لا مكان لإفريقيا في طاولة القرار العالمي، ما لم تُبنَ قوتها من الداخل، بسواعد أبنائها، وشراكاتٍ لا تطلب إلا أن ترى في إفريقيا شريكاً، لا ساحةً للمنافسة.

“الجنوب العالمي لم يعد ينتظر الإنقاذ… بل يبني غده بيده.”

هذه المبادرة ليست فقط لإفريقيا. إنها رسالةٌ إلى كلّ شعبٍ في الجنوب العالمي — من آسيا إلى أمريكا اللاتينية، ومن العالم العربي إلى جزر المحيط الهادئ — أن التحديث متعدّد المسارات، وأنه لا توجد وصفة واحدة للتقدم. والنموذج الصيني، كما أشارت المبادرة، هو “خيار جديد”، لا نموذج إلزامي.

فليُسجَّل التاريخ أن يوم 22 نوفمبر 2025 لم يكن مجرد يومٍ في قمة دبلوماسية، بل ميلاد عهدٍ جديد: عهدٍ تُحدّد فيه الشعوب مصائرها، لا القوى العظمى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *