2025-12-21

من غيونغجو إلى العالم العربي: الحكمة الصينية في قمة “أبيك” وخمسة مقترحات لعولمة عادلة

افتتاحية:المشهد الصيني

في لحظة عالمية تهيمن عليها الانقسامات الجيوسياسية، وتفكك سلاسل التعاون، وتصاعد الحمائية، تقدّم الصين، من خلال رؤية الرئيس شي جين بينغ في قمة “أبيك 2025”  نموذجًا بديلًا للحوكمة الاقتصادية العالمية، لا يُبنى على الهيمنة أو التدخل، بل على الشمول، التعاون المتبادل، والتنمية المشتركة.

يطل علينا خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ من قلب غيونغجو الكورية ليقدّم شيئًا نادرًا اليوم: رؤية منظمة، هادئة، وشاملة.

هذه الرؤية جاءت في مقترحات الرئيس شي في كلمته الموسومة ” بناء اقتصاد آسيا والمحيط الهادئ المفتوح والشامل للجميع”، خلال الجلسة الأولى لاجتماع قادة اقتصاد منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC) “أبيك” الـ32.

هذه الرؤية ليست مجرد سياسة خارجية، بل هي تجسيد لفلسفة حضارية صينية عميقة ترى أن “الازدهار لا يكون حقيقيًّا إلا إذا شاركه الجميع”. والمقترحات الخمسة التي طرحها الرئيس شي ليست مجرد نقاط تقنية، بل إرثٌ من الحكمة الصينية المعاصرة يمكن أن يُلهم الجنوب العالمي بما فيه العالم العربي في صياغة مستقبله التنموي المستقل.

اللافت أن هذه الرؤية، المتمثلة في خمسة مقترحات عملية، لا تتعلق بآسيا وحدها. بل إنها تحمل رسالة مباشرة للعالم العربي: ففي زمن تبحث فيه دولنا عن نماذج تنمية مستقلة، بعيدًا عن الشروط السياسية والوصاية الغربية، تقدّم الصين بديلًا قائمًا على الشراكة وليس التبعية ..على التعاون، لا المواجهة… وعلى التنمية المشتركة، لا المنفعة الأحادية.

أشار شي إلى أنه على مدار أكثر من 30 عامًا منذ تأسيسه، قاد منتدى ايبك المنطقة نحو الصدارة في التنمية المفتوحة عالميًّا، وجعل آسيا والمحيط الهادئ الجزء الأكثر ديناميكية في الاقتصاد العالمي.

وقال شي إن التحوّلات غير المسبوقة منذ قرن تتسارع اليوم في جميع أنحاء العالم، وإن منطقة آسيا والمحيط الهادئ تواجه مخاطر متزايدة من عدم اليقين وعوامل زعزعة الاستقرار في مسار تنميتها، مضيفًا: “كلما اشتدّت الأمواج، كان على أعضاء  “أبيك” أن يجدّفوا معًا أكثر من أي وقت مضى”.

ودعا شي أعضاء المنتدى إلى التمسّك بالرسالة المؤسِّسة لـAPEC المتمثلة في تعزيز النمو الاقتصادي وتحسين حياة الشعوب، والدفاع عن نموذج التنمية المفتوحة الذي يتيح الفرص للجميع ويحقّق الفوز المشترك.

هنا قدم الرئيس شي جين بينغ خمسة مقترحات تجسد قوة الحكمة الصينية التي يمكن ان تقود سفينة العالم الى بر الأمان، الحكمة  الصينية في مقترحات الرئيس شي ليس صالحة لدول آسيا والباسفيك فقط، وانما تصلح للجنوب العالمي، وبالطبع للدول العربية.

حسنا ماهي المقترحات الخمسة التي قدمها الرئيس شي والتي تثمل في الوقت نفسة حكمة صينية تتناسب مع عالمنا العربي؟

الحكمة الأولى: الدفاع عن التعددية الحقيقية ورفض “القواعد المزدوجة”   وتأتي في المقترح الأول (حماية نظام التجارة المتعددة الأطراف) وذلك يعكس مبدأً صينيًّا جوهريًّا: العدالة في النظام الدولي.

الصين لا تدعو فقط إلى الحفاظ على منظمة التجارة العالمية، بل إلى إصلاحها لتكون أكثر تمثيلًا للدول النامية. هذا الموقف يتقاطع مع مطالب العالم العربي العادلة في نظام اقتصادي دولي أكثر إنصافًا، بعيدًا عن الوصاية الغربية.

الحكمة الثانية: الانفتاح كخيار استراتيجي لا كوسيلة مؤقتة، هنا نجد تلك الحكمة في المقترح الثاني (بناء بيئة اقتصادية إقليمية مفتوحة) والذي يعكس فلسفة صينية ثابتة وهي “الانفتاح ليس تنازلًا، بل قوة” . عبر دعم اتفاقيات مثل RCEP وCPTPP، وفيها تُظهر الصين أن التكامل الإقليمي يمكن أن يكون بديلًا ناجحًا عن الكتل المغلقة.

بالنسبة للعالم العربي، هذا درس في أهمية بناء كتل اقتصادية إقليمية قوية (مثل منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى) دون انتظار “الإذن” من الغرب.

الحكمة الثالثة: التعاون بدل الانقطاع وهو يعني استقرار السلاسل كمصلحة مشتركة، وهذا يتطابق مع المقترح الثالث (استقرار سلاسل الإمداد) يجسد مبدأً صينيا حديثًا: “الارتباط أقوى من الانفصال”. في عالم يُفكّك سلاسله لأسباب سياسية، تدعو الصين إلى تعزيز الروابط الاقتصادية كوسيلة لبناء الثقة. هذا النهج يقدّم نموذجًا للتعاون الصيني–الإفريقي–العربي في سلاسل القيمة الزراعية والصناعية واللوجستية.

الحكمة الرابعة: التحوّل الرقمي والأخضر،  أو تنمية لا تترك أحدًا خلفها   وهي تتماثل مع المقترح الرابع (التحول الرقمي والأخضر) يدمج بين الحداثة والاستدامة، وهو انعكاس لرؤية الصين في “الحداثة المتناغمة”. المبادرات مثل شبكة الموانئ النموذجية الرقمية وشبكة سلاسل الإمداد الخضراء تقدّم أدوات عملية يمكن للدول العربية أن تستفيد منها في بناء اقتصاد ما بعد النفط، خصوصًا في مجالات الطاقة النظيفة والتحول الرقمي.

الحكمة الخامسة: التنمية من أجل الإنسان، لا من أجل الأرباح فقط، هنا نجد هذه الحكمة تمضي مع المقترح الخامس (التنمية الشاملة) وهو جوهر الفلسفة السياسية الصينية الحديثة: “الشعب أولا”.

من خلال مبادرة الحزام والطريق ومعاملة الإعفاء الجمركي الكامل للدول الأقل نموًّا، تُظهر الصين أن التنمية ليست صفرية. هذا النموذج يتناقض جذريًّا مع النموذج الغربي الذي يربط المساعدات بالشروط السياسية، ويقدّم بديلًا جذابًا للدول العربية الساعية للاستقلال التنموي.

في كلمته بقمة “أبيك”  لم يقدّم الرئيس شي جين بينغ مجرد خطة اقتصادية، بل رؤية حضارية تقوم على التوازن، المسؤولية المشتركة، واحترام مسارات التنمية المختلفة. هذه الحكمة الصينية ليست حكرًا على آسيا، بل هي إرث إنساني يمكن أن يُلهم الجنوب العالمي ومنه العالم العربي لبناء مستقبل لا يُفرض عليه، بل يصنعه بيده، بالتعاون مع شركاء يحترمون سيادته وخياراته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *