على مدار 60 عاما.. البعثات الطبية الصينية تبني جسورا صحية مع العالم العربي
القاهرة :المشهد الصيني
“وداعا يا زوجتي، لا أعرف متى سأعود إلى الوطن… لو أنجبت ولدا سميه بين، ولو أنجبت بنتا سميها ون”، هكذا قال الطبيب الصيني شيوي شيان تسه في عام 1963 لزوجته الحامل عند سفره كعضو في بعثة طبية صينية إلى الجزائر، حاملا حقيبة فيها كتب ودفاتر.
وكانت البعثة الطبية الصينية التي انضم إليها شيوي، هي الأولى من نوعها إلى الوطن العربي، وأيضا الأولى التي جرى إرسالها خارج الصين.
وعندما عاد الطبيب شيوي إلى المنزل، كان وليده قد بلغ أكثر من سنتين من العمر.
وخلال العقود الستة الماضية، أرسلت الصين دفعات من البعثات الطبية إلى دول عربية عملت على تطوير التعاون الصيني العربي في مجال الطب والصحة.
ــ روح متوارثة على مدى 60 عاما
بعد نحو 60 عاما من وصول أول بعثة طبية صينية للجزائر، بدأت الطبيبة يانغ يي مهمتها منذ عام 2021.
وفي صباح أحد الأيام مطلع العام الحالي، غادرت يانغ يي مسكنها لتركب السيارة متجهة إلى مركز الطب التقليدي الصيني بالجزائر، وما إن حضرت إلى المكان حتى وجدته مزدحما بالمرضى الذين كانوا يجلسون في ممر المركز.
وظلت يانغ منشغلة بتشخيص المرضى وعلاجهم بالوخز بالإبر حتى أنه لم يكن هناك متسع من الوقت لشرب الماء طول اليوم.
مثل هذا الأمر كان هو العمل اليومي العادي ليانغ يي عضوة الدفعة الـ27 من البعثة الطبية الصينية بالجزائر.
وبفضل التجربة الممتدة لـ30 عاما لعلاج الوخز بالإبر والجهود الدؤوبة، نالت يانغ إعجاب عدد كبير من أهالي الجزائر.
وفي ذات مرة، فتحت يانغ درج مكتبها وأخرجت منه صورا قديمة، وفي إحدى الصور ظهرت فتاة جزائرية مبتسمة تقف إلى جانب أطباء صينيين، وكانت الفتاة ممرضة متقاعدة تعمل مع البعثات الطبية الصينية وتلقت علاج يانغ.
كانت الممرضة الجزائرية تشعر بالفعالية العلاجية للطب التقليدي الصيني وخاصة الوخز بالإبر خلال فترة تعاونها مع زملائها الصينيين قبل سنوات، وسبق لها أن عانت من تجمد الكتف الشديد، وطلبت علاجا من الأطباء الصينيين.
وقالت يانغ إن ما وراء ثقة المواطنين الجزائريين بالطب الصيني والأطباء الصينيين هو “روح متابعة عمل السلف وشق طريق للخلف” من البعثات الطبية الصينية”.
وطوال 60 عاما، تتكرر مثل هذه المشاهد منذ وصول أولى البعثات الصينية إلى الجزائر، حيث يودع عدد كبير من الأطباء الصينيين، ومن بينهم شيوي شيان تسه ويانغ يي، بلادهم وأسرهم ويتوافدون على الوطن العربي ليحققوا نتائج مثمرة في التعاون الصيني العربي بمجال الصحة.
وحسب لجنة الصحة الوطنية الصينية، فمنذ عام 1963 حتى ديسمبر 2022، أوفدت الصين 383 فريقا طبيا إلى الدول العربية، حيث بلغ عدد أفرادها 9479.
ومنذ عام 2019 حتى ديسمبر 2022، وصل عدد الذين عولجوا من قبل الفرق الطبية الصينية إلى 3.7317 مليون.
ــ من المساعدة الطبية إلى التفاعل الشعبي
في مدينة المحمدية المغربية، يحظى المركز الطبي الصيني بإقبال كبير لدى المرضى المحليين. ومنذ عام 1986، تقدم البعثة الطبية الصينية في المركز علاج الطب الصيني التقليدي في هذه المدينة الساحلية.
ومن بين المستفيدين من الطب الصيني التقليدي، إريك أرنوكس (54 سنة)، وهو صديق قديم للبعثة الطبية الصينية.
وقال أرنوكس إنه كان يعاني من مرض الفقار العنقي وشد عضلي أسفل الظهر منذ أن كان في العشرين من عمره بسبب ممارسته رياضتي ركوب الأمواج والقفز بالمظلات وغيرهما، لكنه بعد العلاج الذي تلقاه من الأطباء الصينيين في المركز شعر بتحسن كبير.
وأصبح أرنكوس بعد تلقيه العلاج بالطريقة الصينية، من محبي الطب الصيني والثقافة الصينية كما يحب مناقشة “نظرية يين ويانغ” مع الأطباء الصينيين ويهتم بالتشاور مع ممارسي الطب الصيني.
وأكد أرنوكس أن “بعثة المحمدية حققت فوائد للعديد من المرضى المغاربة”، معربا عن أمله في أن يواصل مركز الطب الصيني في المحمدية تقديم العلاج للمزيد من المرضى المغاربة.
ومع استمرار أنشطة العمل للبعثات الطبية الصينية في الدول العربية على مدار 60 سنة، تعلم السكان المحليون الطب الصيني التقليدي وأصبحوا يحبون الثقافة الصينية التقليدية.
ففي تونس، تقدم بعثة الوخز بالإبر التابعة للبعثة الطبية الصينية أنشطة التشخيص والعلاج في جامعات.
وفي الجزائر، تجري البعثة الطبية الصينية تمرينات الطب الصيني التقليدي للأطباء المحليين؛ وفي السودان، يقدم الأطباء الصينيون المعرفة بالرعاية الصحية بالإضافة إلى العلاج للسكان المحليين.
وبينما تتجذر ثقافة الطب الصيني التقليدي في قلوب المحليين تدريجيا، يتعرف الأطباء الصينيون على الثقافة المحلية في حياتهم اليومية أيضا.
فبعد وصوله إلى المغرب، وجد شن هان بينغ، أحد أطباء البعثة الطبية الصينية في مدينة المحمدية، أنه رغم انتشار الفرنسية في المغرب، من الصعب أن يتحدث مع السكان المحليين بها.
وقال شن “يتحدث المحليون بالدارجة (اللهجة) المغربية أكثر في الحياة اليومية، لذلك بحثت عن فيديوهات التعليم للدراسة الذاتية. وبعد ذلك، استخدمت الدارجة للتحدث معهم، وشعرت بالاقتراب بيننا”.
وفي مدينة تيارت الجزائرية، تم بناء حديقة الصداقة الصينية الجزائرية من قبل البعثة الطبية الصينية لدى البلاد، وتقع الحديقة داخل مقر البعثة مع المنشآت الرياضية والطاولات والكراسي، وأصبحت منصة للتواصل بين السكان المحليين والأطباء الصينيين.
وفي كل ليلة أو نهاية أسبوع، تجذب الحديقة العديد من السكان المحليين للذهاب إليها، حيث يلعبون كرة السلة مع الأطباء الصينيين ويمارسون التمارين الرياضية و”بادوانجين” الرياضة الصينية لصحة العقل والبدن، كما أصبحت دروس “ووشو” من أكثر الأنشطة إقبالا لدى الأطفال المحليين.
ــ فريق لا يمكن نقله
“سيترك الفريق الصيني قبل مغادرته الكويت، فريقا من نوع آخر.. فريقا من المواطنين الكويتيين الذين استفادوا من العلاج الصيني، وتعلّم بعضهم كيفية استخدام هذا العلاج، وهذا الفريق لا يمكن نقله، وهو باق في الكويت”، هكذا قال وانغ تشن هوا، والذي ترأس بعثة طبية صينية لدى الكويت قبل مغادرته هذا البلد الخليجي.
وقال مدير مستشفى الطب الطبيعي والتأهيل الصحي الدكتور صلاح الشايجي إن “فريق المساعدة الطبي الصيني أضفى على المستشفى لمسة من الفلسفة الطبية”.
وأضاف الشايجي “بعد الدراسة المستمرة من البعثة الصينية، أتقن بعض الأطباء في مستشفانا بشكل أساسي مبادئ وطرق تدليك الطب الصيني التقليدي والوخز بالإبر والكي، حتى ولو لم يكن الأطباء الصينيون موجودين، فلا يزال بإمكاننا توفير العلاج بالطب الصيني التقليدي للمرضى المحليين”.
بدورها، أشادت مديرة إدارة العلاقات الصحية الدولية بوزارة الصحة الكويتية الدكتورة رحاب الوطيان بالبعثة الطبية الصينية وبالتعاون الطبي “الممتاز” بين الصين والكويت.
وأكدت أن “وزارة الصحة الكويتية تطمح إلى المزيد من التعاون مع الصين، ليس فقط عن طريق البعثة الطبية الصينية، ولكن أيضا عن طريق تبادل بروتوكولات العمل في مواجهة الأمراض، وتحديدا الأمراض المعدية”.
وفي السودان، لا تتدخر البعثة الطبية الصينية أيا من طاقتها لتعميم تقنيات الجراحة التي تتميز بالخطر الأقل والتشغيل الأسهل، وإرشاد الأطباء المحليين في تطبيق هذه التقنيات.
أما في المغرب، فقد أنشأت البعثة الطبية الصينية مع وزارة الصحة المغربية آلية مشاركة المعلومات، وتجري محاضرات خاصة بشأن الطب الصيني التقليدي؛ وفي الجزائر، تتعاون البعثة الطبية الصينية مع الحكومة المحلية لبناء مركز الوخز بالإبر، وتساعد في تدريب المواهب في مجال الوخز بالإبر.
وخلال الـ60 عاما الماضية، ظلت أنشطة التعاون والتبادلات بين البعثات الطبية الصينية والهيئات الطبية المحلية تستمر وتتعمق في الدول العربية، ما يترك فرقا لا يمكن نقلها في هذه الدول الأمر الذي يساهم باستمرار في ترقية المستوى الطبي المحلي.