2025-04-26

الصادق الشعراني يكتب : فن التأقلم.. الإنحناء للعاصفة!!

بقلم : الصادق الشعراني*

بعضُ المشتغلِين بالفلسفة يعتبرون أن الفلاسفةُ هم أناس فشلو لأن ينظرو للأشياء بطريقة عادية. وبعضُهم يرى بأن الفلسفة هي كلمة مركبة من فِيلو- سُوفست، وفيلو هذه تعني حب الشئ، وسوفست تعني الحكمة، وبالتالي يصبح المعنى بعد تركِيبه وتجميعُه: المُحبِين للحِكمة.
أرسطو كان يري أن واحدة من الفلسفات العملية هي الأخلاق، التي تُعني بالأساس بتدبير الفرد، فيكون ذلك التدبير أما بالأقلمة أو بالتجاهل، ولكني أود أن أشير هنا إلى أن حتى التجاهل يعتبر نوع من التأقلم أو التعايش، وأستشهد هنا بمارك مانسون، إذ يقول في كتابه ذائع الصيت فن اللامبالاة : “فلنكن صادقين، الشيء سيء وعلينا أن نتعايش مع هذا ولا نتهرب من الحقائق ولا نغلّفها بالسكّر، بل نقولها كما هي جرعة من الحقيقة الفجّة الصادقة المنعشة هي ما ينقصنا اليوم”.
المعني التنفيذي للتأقلم في العربية الفصحى هو”الإنحناء للعاصفة”، والمعني العملي لها هو “التسوية- Settlement”، والتأقلم–”ِAcclimation ” الدائم أو المؤقت. ولطالما كان يُعرف إستيفن هوكينج الذكاء بأنه التأقلم مع التغيير، وأخرون يصنفونه بالفن. ووفقاً لهذه الأحوال والتوصيفات يُمكن تصنيفها ومذهبتها ضِمن الفلسفة البراغماتية “العملية”.
ظهرت البراجماتية كفلسفة أمريكية تمقتُ البحث النظري العقيم الذي يركز على كُنه الأشياء ومصادرها، وأخذت تُركز على نتائج الأعمال وعواقبها، وأجازت للإنسان أنْ يتخذ مِن أفكاره وآرائه ذرائع، يستعين بها على حفظ بقائه أولاً، ثم السير بالحياة نحو السُمو والكمال ثانياً، وظهرت كردة فعل لموجات الفلسفة المثالية .(1)
تطبيقات فلسفة التأقلم
بغير عناء، يُمكننا ملاحظة تطبيقاتها وتجريباتها علي مُستويات الفرد والمجتمع والدولة. فعلي صعيد الفرد، وفي حالات الوعي الحقيقي بالذات يدرك الإنسان جيداً وبطريقة “عملية “لا تدع مجال للشك أن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وبالتالي تبدأ مساومات التمني، وتسويات الرغبة، وتماهيات الإرادة، منفردين أو مجتمعين في الصعود والهبوط في فضاء التعاملات اليومية، وتقلباتها مع المجتمع كطرف خارجي من جهة، ووتصوراتنا ورغباتنا إزاءه من جهة أخرى. وذلك لأننا ببساطة في النهاية بشر، يجب أن تقدم التنازلات لكي تمضي بك الحياة.
ولذلك يقُال، مثلاً، في المأثور التراثي: بأنت تريد، وأنا أريد، والله يفعل مايريد،والله غالب، والزارعها الله في الحجر بتقوم – أي تنبت. وهي معاني تفيد أن الإرادة النافذة والناجزه هي للإله فقط ولابد من تقبلها.
ولما كان المُجتمع يتكون من مجموعة من الأفراد، فإن عمليات التدافع الإجتماعي والإقتصادي التي تسري على الأفراد هي صائرة وناجزة كذلك في التدافع المجتمعي في شكل كتلي، ومجموعاتي، بحسب الظروف الواقعية والموضوعية لقوى هذا المُجتمع أو ذاك. وما يهُمنا هنا هو أن المجتمع ككل أيضا يخضع لعمليات التأقلُم والتسّوية، ويستخدمها بترددات كثيرة داخل تفاعلات قواه المختلفة بكثرة.

أما تطبيقاتها في سياق الدولة، فهو من أوضح الأمثلة، لأنها بالأساس تتعاطي مع السياسة، والسياسة هي أحد أفرع الفلسفات العملية التي تقوم علي التسوية. والتأقلم في السِياسة يمكن تسميته بفن الإمكان، وهو تعريف شائع للسياسة نفسها. وبالتالي نجد نفسنا في غنية عن الخوض في هذا الباب.
في التُراث العالمي هُناك فلسفات مشابهة كثيراً لفلسفة التأقلم، على سبيل المثال: الفينج شوي، أوالفنغ شوي بالإنجليزية: (Feng Shui) هي فلسفة صينية نشأت منذ حوالي 4000 سنة مضت وهي فن التناغم مع الفضاء المحيط وتدفقات الطاقة من خلال البيئة والتصالح مع النفس ومع الطبيعة المحيطة بالإنسان وبذلك يستطيع التعايش بشكل إيجابي بدون توتر(2).

أستخلص في الأخير بحسب إعتقادي أن فلسفة التأقلم، هي إحدى أهم أدوات الحياة السعيدة، على مستويات الفرد والجماعة والدول. بل أعتقد بأنها ليست فلسفة للتعايش والتأقلم فقط، بل إنها طريقة حياة، وهذا تحديداً ما يُكسبها قيمة قصوى للفرد والجماعة، كنظام مُشغِل، يستطيع التعامل مع مشكلات الحياة اليومية والحياتية بفعالية، كنضال لتوفير مجال نفسي أمن للنفس البشرية أو كما يقول جورج أورويل :”إن قدرة المرء على رؤية ما هو أمام أنفه تمامًا في حاجة إلى نضال مستمر”.

*الصادق الشعراني
باحث في الدراسات الإفريقية والآسيوية

المرجعيات :

  • علي سعيد إسماعيل، فلسفات تربوية معاصرة، الكويت: عالم المعرفة (1995م).
  • الفينج شوي(Feng Shui ) ، فلسفة صينية، رابط: https://bit.ly/3uenDIK

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *